من رابع المستحيلات أن تعود الساعة إلى الوراء ولو فرضنا جدلا عودتها ونتخيل إننا نعيش في العصر العباسي الأول حيث الحضارة والازدهار مدن عامرة وقصور مزدهرة بأمراء وشعراء وندماء وجواري وقيان وموسيقي وغناء والبلدة الأم بغداد حاضرة الدولة العباسية تزدهر يوما بعد يوم شوارعها أسواقها شعرائها وصعاليكهاوزنادقتهاأيضا ولم تكن بغداد هي البلدة الوحيدة فكانت هناك مدن وكان هناك أكواخ وكانت هناك أزقه وحانات وبؤس وفقرمدقع تلك هي النقائض التي تعج بها المجتمعات في كل زمان ومكان وعلى شط العرب عند التقاء دجلة بالفرات نشأت مدينة عظيمة تعرف بالبصرة حيث التقاء النهرين وفيضهما العميم والبصرة هذه أول مدينة أنشئت في الإسلام وأول إنشائها كان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد بناها الصحابي القائد عتبة بن غزوان وفي العصر العباسي، وصلت البصرة إلى قمة ازدهارها، فصارت مدينة كبيرة فيها أسواق واسعة ومناطق سكنية كثيرة، مشهورة بمساجدها ودور كتبها العامة ودور النسخ وحوانيت الوراقين والحدائق الجميلة، التى تروى بفيض النهرين العظيمين وكانت البصرة ثاني مدينة في العراق بعد بغداد عاصمة الدولة العباسية.و كان النهران يلتقيان ويفيضان بالخير العميم
وكان صائدو الأسماك لهم حظ وافرمن خيرات التقاء النهرين العظيمين فانتشرت تجارة بيع الأسماك بالبصرة شانها شان المدن الساحلية.
شاب في مقتبل العمر لم يكن من ساكني القصور ولا من حراس الخليفة أو احد ندمائه أو مادحيه بل كان رقيق الحال عرف في سوق البصرة ببيعة للأسماك وعند انتهاء موسم صيد الأسماك بانحسار المياه يلجا صاحبنا إلي بيع الخبز في أسواق البصرة ويعاود الكرة كلما فاضت مياه النهرين والتقتا مرة أخرى
لم يحظي هذا الشاب بشيء من صباحة الوجه وجمال الخلقة فقد كان دميما بارز العينين رث الثياب ولكن الله سبحانه وتعالى عوضه عن ذلك بخفة الظل وجمال الروح مما جعل الناس يقبلون عليه ويتبادلون معه الملح والنكات!
ويشترون مما لديه مايباع!!
انه أبو عثمان الجاحظ؟ ؟؟
سبحان الله وتعالى له في خلقه شئون؟؟!!
كانت ولادة الجاحظ في خلافة المهدي ثالث الخلفاء العباسيين سنة 150 هـ وقيل 159 هـ وقيل 163 هـ، وتوفي في خلافة المهتدي بالله سنة 255 هجرية، فعاصر بذلك 12 خليفة عباسياً هم: المهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي بالله، وعاش في القرن الذي كانت فيه الثقافة العربية في ذروة ازدهارها.كان شغوفا بالعلم باحثا عن المعرفة ولكن فقره حال دون تواجده بالمدارس النظامية فكان يعمل نهارا ويستأجر حوانيت الوراقين ليلا بدعوي المبيت فيها وكان يستغرق الليل كله في القراءة والاطلاع وكان نهما ينهل من العلم ويرتوي حسب المصادر والطريق إلى القمة لاشك انه غير ممهد ومحفوف بالأشواك
فقير يتكسب قوته بشق النفس حباه الله تعالى قدرة فائقة علي الحفظ والاستيعاب والشغف بالبحث والاطلاع حفظ القران الكريم ودرس علومه وتفاسيره أخذ علم اللغة العربية وآدابها على أبي عبيدة مؤلف كتاب نقائض جرير والفرزدق، والأصمعي الراوية المشهور وأبي زيد الانصارى ثم بدا يأخذ العلم على أعلامه
ودرس النحو على الاخفش وتبحر في علم الكلام علي يد إبراهيم بن يسار بن هانئ وكان يذهب الي مربد البصرة فيستمع إلي لهجات الأعراب من أفواههم ويجالسهم في مضاربهم ويتأمل في سلوك أغنامهم وأبلهم ويدون ذلك في رقاع ويعود حيث يقيم وقد تكونت لديه حصيلة لا باس من لهجات العرب وسلوك الحيوانات وطباعهم ظهرت بعد ذلك في كتابه المعروف بهذا الاسم
لم يكتفي الجاحظ بالثقافة العربية بعلومها وآدابها بل تعدي ذلك ودرس ثقافة الإغريق وبلاد فارس ولاشك فان تأثير ابن المقفع قد بدا واضحا في كتابه الحيوان فقد تحدث ابن المقفع بلسان الحيوان وكتب الجاحظ عن الحيوان ومربد البصرة الذي كان يرتاده الجاحظ
يبعد عن البصرة بثلاثة أميال هو مساحة شاسعة من الأرض كانت تحبس فيها الإبل ولذلك سمي بالمربد كانت تقا
م فيه مبارزات في الشعر بين الفرذق وجرير عرفت فيما بعد بشعر النقائض
ولاشك إن لمربد البصرة اثر مباشر في تشكيل ثقافة الجاحظ من خلال استقائه لهجات العرب وتأمله سلوك الحيوان لقد درس الجاحظ ثقافة الإغريق وتعمق فيها وقد ظهر اثر ذلك واضحا في كتاباته وأبحاثه باستخدامه مناهج البحث في علم النفس و هي من علوم الإغريق والتي وصلت إلى العرب بعدان نقلت إلى العربية
سلك الجاحظ في كتاباته منهجا علميا لم يسلكه أحدا في عصره متفردا به واستطاع التخلص من جفاف المادة العلمية بإضفاء الصبغة الأدبية علي أبحاثه مما يجعل القارئ أو المتلقي لا يتسرب إليه الملل فلاشك في أن الجاحظ يملك ذلك ويقدر عليه والجاحظ الذي اكتسب هذا اللقب لجحوظ عينيه واكتسب هذا المجد برجاحة عقله هو
أبو عثمان عمرو بن بحر محبوب الكناني الليثي البصري، (159-255 هـ) أديب عربي من كبار أئمة الأدب في العصر العباسي، ولد في البصرة وتوفي بها وخلاصة القول إن هذا الأديب العالم الموسوعي صنف من الناس لن يجود الزمان بمثله ولم يوفيه أحدا حقه فقد اثري الأدب العربي بما خلفه من تراث يظل خالدا إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها
0 التعليقات:
إرسال تعليق