رواية وكاتب
ميرامار ونجيب محفوظ
القرية المصرية وخاصة في صعيدها حيث حرارة قيظها نهارا وحلكة ظلمتها ليلا وانعدام وسائل الترفيه والتسلية في ذلك الزمان إلا من مقهى تحوط جوانبه مصاطب طينية فرشت ببسط الحصير الخشن تنتشر سحب الدخان الكثيف تارة من موقد الحطب أو الفحم وتارة أخرى من دخان المعسل والسجائر ومع انعدام وسائل التسرية يلجأ الناس إلى راوي، وهو رجل مسن حنكته مشقة الحياة وشظف العيش وقف هذا الراوي يحمل الة الربابة يداعبها بقوس في يده فتصدر عنها أنغاما يطرب إليها السامعون الملتفون حوله وهو ينسج لهم قصصا من موروثات شعبية توارثها الناس كابرًا عن كابر، ويلعب فيها الخيال دورا كبيرا. وكان هذا الشاعر أو الراوي يملك قدرة فائقة على التاثير في السامع مما أعطي من حلاوة في الصوت وبراعة في السرد.
إن السرد القصصي كما هو واضح من هذه المقدمة ليس وليد العصر الحديث كما تشير الدراسات الأكاديمية حول السرد القصصي، وإنما هي موروثات تناقلتها الأجيال في ريف مصر عبر العصور المختلفة. وإن براعة السرد التي يتمتع بها أدباؤنا والتي كانت سببا في صعود أكثرهم إلى العالمية، ومن قبل ذلك تأثيرهم في شعوب بلادهم وعشاقهم إنما هي جينات تجري في دمائهم عبر التاريخ.
فنجيب محفوظ ليس الأوحد، فمصر غنية ولادة، فهي التي أنجبت العقاد وطه والمازني والمنفلوطي وأمين يوسف غراب ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم وغيرهم، إلا أن نجيب محفوظ كانت له رؤية خاصة في عرض موضوعاته وتحريك شخوصه، وكان له رؤية خاصة أيضا في إظهار عناوين رواياته، فتجد العنوان بعيدا كل البعد عن الموضوع، فعند قراءة العنوان لأول وهلة تتخيل موضوع الرواية، وبعد الاسترسال في القراءة تجد موضوعا آخر يبعد كل البعد عن العنوان، فرواية الكرنك مثلا عندما تقرأ عنوانها يخيل إليك أن الكاتب سوف يحدثك عن القرية الأثرية في صعيد مصر، وعند الاسترسال في القراءة يتضح أن العنوان لمقهى في القاهرة كان يجلس عليها الكاتب، وأن موضوع الرواية يتعلق بالسياسة وعصور الاضطهاد، وأن عنوان رواية ميرامار ما هو إلا اسم للبانسيون الذي تدور فيه أحداث الرواية .
إن عددا من عناوين روايات محفوظ أسماء لشوارع وحارات كالثلاثية وخان الخليلي وزقاق المدق وغيرها وهذا الأسلوب تفرد به نجيب محفوظ دون غيره وكان له قدم السبق فيه فمحفوظ يلجأ الى الرمز دائما في اسلوب متفرد ميزه عن الاخرين الذين كانت تاتي عناوين كتاباتهم مباشرة بأختيار اقصر الطرق للوصول الى الموضوع.
إن رواية نجيب محفوظ أولاد حارتنا التي أثارت جدلا كثيرا في الأوساط الدينية والسياسية والتي شبه الدنيا فيها بحارة وتعرض للذات الإلهية تلميحا وقصة هابيل وقابيل وكيف قتل أحدهما الآخر وتفرق الأبناء وأصبحوا يمثلون الأديان السماوية كما ألمح بذلك محفوظ وهو برمزيته هذه والتي لم يستطع من خلالها أن يخفي مكنون نفسه فقد استطاع من يهمهم الأمر كشف ما أراد محفوظ أن يرمز إليه أو يستره، فكان الجدل وكانت الحرب .
ونجيب محفوظ الكاتب المصري القاهري المولد عام 1911 وان كان الأصل يعود إلى احد اقاليم مصر فمعظم سكان القاهرة والمدن الكبرى تعود أصولهم إلى الأرياف أو الأقاليم فلا يوجد قاهري صرف إلا ما ندر.
فقد درس محفوظ بعد تعليمه الأولي الفلسفة بجامعة القاهرة والتي كان لها اسم آخر يوم أن درس فيها محفوظ وتقلب في وظائف الدولة وكتب الرواية التاريخية المستمدة من التاريخ بإضافة وجهة نظره الشخصية وخياله العميق، وهذا وإن كان عيبا فهو عيب لابد منه، وإلا كان الكاتب مجرد ناقل للتاريخ وهذه الروايات هي عبث الأقدار؛ ورادوبيس، وكفاح طيبة ؛ولمحفوظ أكثر من 50 رواية وكتاب وبعض سيناريوهات الأفلام السينمائية، ونال الكاتب بعض الجوائز بمصر وتوج بعد ذلك بجائزة نوبل العالمية عام 1988 ميرامار رواية من روايات الاديب نجيب محفوظ من الأدب الاجتماعي الذي تخصص فيه محفوظ في معظم كتاباته نشرت لأول مرة عام 1967 استمد عنوانها من اسم البنسيون الصغير التي تدور فيه إحداث الرواية ويسكنه معظم شخوصها فغالب أحداث الرواية تدور بين حوائط البنسيون الأربعة والذي تديره سيدة عجوز يونانية لا تعرف من العربية إلا القليل في فترة من الزمن كانت الإسكندرية تعج بالكثير من الأجانب وخاصة اليونانيين وهم رعايا اليونان المقيمين في الإسكندرية وكان هؤلاء الناس يمتهنون أعمالا محددة قلما يتعدونها مثل البقالة والخمور والبانسيونات أو الفنادق.
وكان الرجل من هؤلاء الإغريق غالبا ما يسمى (يني) أو خرستو، والسيدة تسمى (ماريانا) كإحدى بطلات قصتنا هذه أو كما يحب صناع أفلام السينما أن يسمونهم، ويعيش في هذا البانسيون عدد من الشخصيات المختلفة مثل (عامر بك وجدي) الصحفي المتقاعد وسرحان الشاب العابث الوصولي الذي يوعد زهرة بالزواج وهي الفتاة التي جاءت إلى الإسكندرية هاربة من بلدتها لرفضها الزواج من عجوز غني ضغطت عليها أسرتها للزواج منه .. ولكن ولأنها مثال للمرأة المصرية القوية صاحبة الإرادة رفضت ذلك وهربت إلى الأسكندريه وعاشت في بنسيون ميرامار وعملت فيه كخادمة وأثناء ذلك تعرفت زهرة على مدرسة اسمها عليّه تقوم على محو أميتها وتعليمها القراءة والكتابة وتتزوج زهرة من بائع الجرائد بعد تخليها عن سرحان البحيري والذي ثبت لها عدم جديته في الزواج منها . وفي الرواية افرد محفوظ لكل شخص من الشخوص بابا يقدم لنا فيه نفسه ويحدثنا عنها من خلال حوار يجريه مع رفاقه من النزلاء أو صاحبة البانسيون أو الخادمة زهرة وهي الشخصية المحورية في القصة .
إن نجيب محفوظ بروايته هذه التي تأتي مواكبة لثورة 23 يوليو والتي قضت على الإقطاع والرأسمالية الذي اجتمع بعض رموزها في هذا البانسيون، فكان منهم الساخط والناقم على ما آلت اليه البلاد من أوضاع ورياح لا تشتهيها سفنهم.
وفي هذه الرواية يجسد لنا محفوظ كل الطوائف التي كانت تعيش في مصر في ذلك الزمان الاقطاعي والصحفي والمتصابي والأجنبي صاحب رأس المال والخادمة وبائع الصحف البسيط، وإن هذه الشخوص تمثل تمثيلا دقيقا طبقات الشعب المصري في صورة مصغرة جمعت في هذا المكان الذي يمثل الدولة وبأنتصار زهرة الخادمة البسيطة على مغريات الجاه والحياة الرغدة الناعمة والرضا بالقليل يمثل قناعةالشعب المصري القاعدة العريضة.
إن محفوظ بحق قد أجاد استخدام فن السرد القصصي والحوار في أعماله على لسان أبطاله من خلال أفراده بابا لكل شخص من شخوصه، وقد لجأ إلى استخدام الفاظ تتناسب مع ثقافة الشخصية التي رسمها والتي يدار معها الحوار، فزهرة القروية لها ألفاظها وكذلك ماريانا اليونانية، وكذلك الصحفي وابن الذوات المدلل، وقد غاص محفوظ في أعماق النفس البشرية وسبر أغوارها، وتلك سمات مميزة لأدب محفوظ وإن شاركه فيها أدباء آخرون.
وقد سلك محفوظ مسلك أنصار مدرسة التحليل النفسي. إن أي عمل أدبي سواء أكان مقروءا أو مسموعا أو مرئيا لاشك أن له تأثيرا على المتلقي. ومحفوظ من خلال سرده تراه متأثرا بالقرآن الكريم بطريق مباشر أو غير مباشر حتى أنه اختتم روايته ميرا مار بآيات من سورة الرحمن. خاتمة ميرا مار
إن روايات محفوظ التي شهد لها العالم بأثره من خلال الترجمات التي أتاحت للشعوب التعرف على الأدب المصري وتذوقه، فكانت نوبل وهي أرفع جائزة تمنح لعظماء العالم، وإن الجوانب الهامة في رواية محفوظ ميرا مار الجانب الاجتماعي وهو نبذ عادة ذميمة من عادات الشعب المصري يرغمون فيها الفتاة على الزواج متجاهلين معيار الكفاءة وفارق السن وذلك في مقابل لمن يدفع أكثر، ومما يؤسف له أن هذه العادة مازالت متأصلة، فكثير من بنات مصر كانوا ومازالوا ضحية لمن يدفع أكثر من أثرياء العرب، ولذلك جاءت النتائج عكسية أكثر مما يتوقع الناس، وليعلم الناس أن المال الذين يبيعون به بناتهم إنما هو عرض زائل وعارية مستردة.
وفي ميرامار تترك زهرة قريتها إلى المجهول، وتوفق في أن تجد من تعيش في كنفه رغم بساطة العيش وشظفه ورغم إغراءات سرحان الذي أدركت بفطرتها أنه لا طائل من ورائها وليس كل تاركات الأهل لهذه الأسباب مثل زهرة، فإن زهرة سعيدة الحظ إلى حد ما لأنها وجدت من تعمل عنده في وسط آمن نسبيا، ووجدت من تقترن به في نهاية المطاف، ولكن ليست كل الأماكن كبانسيون ميرامار.
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ } قرآن كريم سورة الرعد أية(17)
http://miramar-bibalex.blogspot.com.eg/2012/09/blog-post_6282.html
http://miramar-bibalex.blogspot.com.eg/2012/09/blog-post_6282.html
0 التعليقات:
إرسال تعليق